كانت طلائع القوات الفرنسية قد أخذت تحتل مواقع حساسة في الشريط الساحلي منذ مطلع تشرين الثاني 1918 ومن ثم بدأت تتوسع باتجاه الشرق والشمال وتقضي على الحكومات المحلية التي قامت في تلك المناطق باسم الحكومة العربية في دمشق. وجاء التحدي للاحتلال الفرنسي من المناطق الريفية في الساحل السوري الشمالي والمناطق الشمالية الغربية من سورية على شكل موجة من الثورات. ولم تتوقف تلك الثورات باستيلاء الفرنسيين في تموز عام 1920 على جميع المدن الداخلية وعلى قسم كبير من البلاد بل ظلت مشتعلة خلال السنة الأولى من الاحتلال الفرنسي، ولم تتم السيطرة الفرنسية عل المناطق الثائرة في صيف 1921 إلا باستخدام القوة المفرطة.
وتبرز في هذا المجال ثورتان: الأولى بقيادة الشيخ صالح العلي شملت كل أنحاء المنطقة الساحلية الكائنة بين القرداحة شمالاً وصافيتا جنوباً والعاصي شرقاً والبحر غرباً. أي أنها شملت أقضية طرطوس وجبلة ومصياف وبانياس. وكان مركز الثورة قرية الشيخ بدر التي جعل صالح العلي منها حصناً له. وشملت الثورة الثانية بقيادة إبراهيم هنانو المنطقة الشمالية الغربية بين حارم وكفر تخاريم وإدلب وجبل الزاوية وجسر الشغور جنوباً وقضاء صهيون في منطقة اللاذقية غرباً ثم معرة النعمان وأطراف حماة شرقاً. وكان مركز الثورة كفر تخاريم.
دعيت الثورة الأولى بثورة الشيخ صالح العلي لأنه كان موقدها وبطلها، وهو ابن الشيخ علي سلمان، ولقد عرف هو ووالده بالتقوى والصلاح. ولد في عام 1883 في قرية المريقب ناحية الشيخ بدر في منطقة طرطوس. وكان لوالده مكانة دينية كبيرة ومدنية، وقد خلف الشيخ صالح والده في زعامة المنطقة وكان مثلاً يحتذى في الإيمان والوطنية.
ومنذ أن وصلت الأخبار إلى جبال اللاذقية بأن الفرنسيين قد احتلوا الشريط الساحلي ويتحركون باتجاه الداخل قام الشيخ صالح العلي في 15/12/1918 بدعوة زعماء ووجهاء قرى المنطقة الساحلية وجبالها من جميع الطوائف للاجتماع به في قرية الشيخ بدر إحدى قرى منطقة طرطوس وقد تداول معهم في أمر الوقوف في وجه مطامع الفرنسيين، ونواياهم بفصل المنطقة الساحلية عن الحكومة العربية، واعتدائهم على ممثليها ونزعهم علمها الذي كان مرفوعاً على المحلات الرسمية وعلى دور الأهلين في المدن الساحلية، وتنكيلهم بالمواطنين الذين أصروا على رفعه. وأكد الشيخ صالح أن الدلائل تشير إلى أن الفرنسيين سيحاولون جعل سورية مستعمرة. وقد قرَّ رأي المجتمعين بعد ثلاثة أيام متواصلة على إشعال نار الثورة في الجبل لطرد الفرنسيين من الساحل في الجبل السوري كله وتكليف الشيخ صالح قيادة هذه الثورة. وحمّل المجتمعون رسل حكومة دمشق أنباء هذا القرار لتقوم الحكومة بدورها بمد الثورة بما تحتاجه من سلاح وعتاد ومؤن.
ووصل نبأ الاجتماع السلطة الفرنسية فقامت بالقبض على بعض الزعماء الذين حضروا الاجتماع وزجتهم في سجن بانياس. وكان منهم أحمد المحمود ومحمد إسماعيل واسبر زغيبي. ووجه قائد حامية بانياس الفرنسي دعوة للشيخ صالح العلي للاجتماع به، ولكن الشيخ، الذي يعرف عظم المهمة الملقاة على عاتقه ويعلم خبيث نوايا المحتلين الفرنسيين، لم يلب الدعوة. وراح يتخذ الاحتياطات الممكنة للوقوف في وجه عدوان الفرنسيين. وقد أسرعت القيادة الفرنسية في القدموس بتوجيه حملة مؤلفة من كتيبة مشاة مدعومة بالمدفعية لاحتلال الشيخ بدر واعتقال الشيخ صالح والقضاء على الثورة في مهدها قبل أن تتسع وتأخذ شكل ثورة عارمة.
بلغت الشيخ صالح أنباء هذه الحملة وكانت مفاجأة له ولم يكن قد أعد لها العدة اللازمة، ولم يكن لديه سوى بضعة رجال من أعوانه ومقدار قليل من الذخيرة لبنادق قديمة من الطراز الألماني. ولم يكن لدى الشيخ بدر خيار فهب مع أولئك الرجال القلائل للتصدي للحملة في منطقة أحراج وصخور قرب قرية النيحا الواقعة على بعد 6كم شرق الشيخ بدر، والتي تحيط بها الجبال من الجهات كافةً، ويستطيع المجاهد الذي يقف من جهة الشيخ بدر استطلاع تحرك أي شخص أو آلية تقوم بأي عمل. وكان المجاهدون يتمركزون في هذه النقاط الحساسة وفكرة الثبات حتى النصر أو الموت جعلتهم يصممون على خوض المعركة مهما كانت النتائج. وأصلى المجاهدون القوات الفرنسية ناراً حامية من مواقعهم المحصنة بينما كان الفرنسيون في أرض سهلة. ولم تدم المعركة طويلاً رغم عدم التكافؤ بين قوات الطرفين، فتراجعت القوات الفرنسية مخلفة 35 قتيلاً أي ثلث تعداد السرية تقريباً عدا عشرات البنادق وصناديق الذخيرة والمعدات. وكانت هذه المعركة المظفرة فاتحة المعارك. ودوى خبر هذه المعركة في أنحاء الجبل وتقاطر المتطوعون للانضواء تحت راية الثورة والجهاد. وأخذ الشيخ صالح بتنظيم صفوف المتطوعين وكان قد وصل إلى المنطقة إثر تلك المعركة بعض ضباط الجيش العربي الذين أرسلتهم حكومة دمشق كمستشارين عسكريين للثورة.
وفي مطلع شباط، ولمواجهة الوضع الذي أفسد مخططات القيادة العليا الفرنسية أجرت هذه تغييرات في تنظيم القيادة وإعداد القوات وأرسلت الوحدات إلى الأماكن التي كان إرسالها إليها ضرورياً. وأصبحت المنطقة الساحلية تحت مسؤولية اللواء المختلط الساحلي بدلاً من قيادة الفرقة السورية بأمرة الجنرال دولاموت.
وكان الشيخ صالح العلي، بعد هزيمة الفرنسيين في الحملة الأولى قد فطن إلى أن السلطة الفرنسية سوف تسيّر حملات أكبر. وفعلاً فقد سارع الفرنسيون إلى مواجهة الثوار قبل أن يكملوا استعدادهم للقتال فأعادوا الهجوم في 2 شباط 1919 على قرية الشيخ بدر بقوة أكبر ودعم أكثر.
ولكن الشيخ صالح كان مهيأً لملاقاة الفرنسيين هذه المرة بما توفر له من سلاح وعتاد كان قد غنمه في المعركة السابقة وما انضم إليه من مجاهدين جدد. ودارت المعركة واستمرت منذ ساعات الصباح حتى المساء وانجلت عن هزيمة الحملة الفرنسية تاركة في أرض المعركة عشرين قتيلاً وثلاثة أسرى وكمية كبيرة من المعدات والذخائر.
كان لمعركة الشيخ بدر الثانية أثر كبير في زيادة القوة المعنوية والمادية لدى المجاهدين بما كسبوه من نصر على عدوهم وما وقع في أيديهم من أسلحة وعتاد. وبرهن الشيخ صالح على قيادة حكيمة وخبرة عسكرية لم يتلقنها في المدارس العسكرية، ولكنه كان يتمتع بعقل سليم وحس مرهف وثقة بنفسه وبعدالة قضية بلاده. وبرهن المجاهدون على مستوى عال من البسالة والإقدام وروح الفداء وقوة العزيمة. وقد كان للمعركة أثر كبير لدى الفرنسيين الذين بدؤوا يشعرون بأنهم يواجهون ثورة قوية عنيفة قد تقضي على سيطرتهم على البلاد.
امتدت الثورة إلى جبال صهيون، حيث تنادى سكان قضاء بانياس ومنطقة الحفة للانضمام إلى ثورة الشيخ صالح العلي ودارت بينهم وبين الجيش الفرنسي معارك ضارية، منها معركة بابنا عام 1919، ومعركة النهر الكبير قرب اللاذقية التي جرت في شهر شباط من عام 1919 رداً على سلب الفرنسيين لقافلة تجارية، حيث كبدوا الفرنسيين خسائر كبيرة.
واستمرت الثورة بزخمها العنيف ولم يتمكن الفرنسيون من القضاء عليها رغم ما حشدوه من قوات ضخمة مزودة بأحدث الأسلحة في ذلك الزمن، فاستقر رأيهم على مهادنة الشيخ صالح العلي وتوسطوا حليفتهم بريطانيا لتتفاوض معه، ولم يتوان البريطانيون عن مد يد العون لحلفائهم الفرنسيين، فوجه الجنرال اللنبي قائد الحلفاء في الشرق رسالة إلى الشيخ صالح العلي بتاريخ 25 أيار 1919، حملها ضابطان بريطانيان، وقد طلب الضابطان عدم التعرض للقوة الفرنسية التي ستمر بالشيخ بدر متجهة من القدموس إلى طرطوس، وألحا في ذلك، ورغم استشفاف الشيخ صالح العلي لنية الغدر، إلا أنه وافق على المطالب البريطانية، لأنه وجد أنه من الحكمة ألا يثير بريطانيا في تلك المرحلة الحرجة.
وهكذا تم الاتفاق مع الشيخ على السماح للقوة الفرنسية بالمرور في الشيخ بدر والتزود بالماء، على ألا تقف أكثر من ساعة وألا تنصب حمولة أو خيمة. ومن أجل تجنب الاحتكاك بالقوة الفرنسية أمر الشيخ صالح بإخلاء قرية الشيخ بدر وحصّن رجاله في التلال المحيطة بها.
تقدمت القوات الفرنسية إلى قلب منطقة الشيخ بدر وشرعت فوراً بإنشاء المرابض لمدافعها وحفر الاستحكامات ثم باشرت بإطلاق نار المدافع والرشاشات على قريتي الشيخ بدر والرسته مسقط رأس الشيخ صالح العلي وبيوته، وحينئذ أمر الشيخ صالح الثوار بالانقضاض على القوة الفرنسية بهجوم صاعق، وقامت معركة دامية استمات فيها المجاهدون وانتهت بهزيمة الفرنسيين بعد أن خسروا 35 قتيلاً والكثير من العتاد والذخائر. ودامت هذه المعركة من الظهيرة حتى حلول الظلام. وكان لهذه المعركة أثر كبير في جميع أنحاء المناطق الساحلية والجبال حيث تدفق الرجال من كل النواحي للتطوع في صفوف الثورة، وتوافدت على إثر المعركة وفود حكومة دمشق تحمل المساعدات والإمدادات، وانضم بعض الضباط من الجيش العربي إلى هيئة أركان حرب الثورة.
شعر الفرنسيون بعد تلك الهزيمة بقوة الثورة واتساع نطاقها وازدياد عدد الثوار، فحاولوا السيطرة عليها بجميع الوسائل بدءاً من سياسية الخداع والإغراء والمهادنة، وصولاً إلى استخدام القوة العسكرية واتباع سياسة الأرض المحروقة، وتوالت المواجهات بين الثوار والفرنسيين تباعاً، ومن أهم هذه المعارك:
في 15 حزيران 1919، حيث نصب الشيخ صالح العلي ومجاهدوه كميناً للقوات الفرنسية التي كانت تتقدم باتجاه الشيخ بدر في المناطق المحصنة المحيطة بطريق القوة، وأوقعوها في كمين محكم، حيث تمكنوا من تدميرها تماماً، وهرب من بقي من الفرنسيين تاركين أسلحتهم وعتادهم.
في 21 تموز 1919 قامت مفرزة من الثوار بالهجوم على قلعة المرقب الحصينة في أعالي الجبال الساحلية شرق بانياس، وفيها حامية فرنسية قوية مؤلفة من سريتين مع مدفع. ونتيجة الهجوم انسحب الفرنسيون من القلعة بعد أن سقط منهم ستة قتلى وجرح عشرون. واستولى الثوار على القلعة التي كانت تعتبر مركزاً منيعاً للمراقبة بمكّن حاميتها من اكتشاف حركات الفرنسيين في بانياس والطرق الساحلية الممتدة لعشرات الكيلومترات.
شهدت الثورة في 20 شباط 1920 معركة فاصلة، وذلك حين قررت قيادة الثورة مهاجمة طرطوس باعتبارها المركز الرئيسي للقوات الفرنسية في الساحل السوري، بهدف كسر شوكة تلك القوات. بدأت معركة طرطوس بهجوم ثلاث كتائب من الثوار على طرطوس من جهاتها الثلاث حسب خطة وتوجيه دقيقين. وفوجئ الفرنسيون بالهجوم وتقدم المجاهدون وضغطوا على ثكنات المدينة ودارت معركة عنيفة استعمل فيها السلاح الأبيض. وكاد الثوار أن يستولوا على طرطوس لولا تدخل قطع البحرية الفرنسية التي تدخلت بقصف عنيف وبإنزال قوات البحرية، مما دفع الثوار إلى الانسحاب خوفاً على طرطوس وسكانها الآمنين من دمار رهيب، بعد أن أنزلوا خسائر فادحة بالفرنسيين وحملوا معهم كميات من الأسلحة والذخائر استولوا عليها من مستودع عسكري.
في أعقاب هجوم طرطوس زحف الشيخ صالح العلي مع 400 مقاتل من رجاله في يوم 3 آذار 1920 على القدموس، التي تعتبر بحكم موقعها الجغرافي قلعة محصنة، حيث حاصرها وطلب من حاميتها الاستسلام، وقد رفضت بادئ الأمر إلى أنها اضطرت مع استمرار المناوشات والحصار الشديد، إلى الاستسلام، وهكذا سقطت القدموس في يد الثوار.
استمر القتال سجالاً بين قوات الشيخ صالح العلي وقوات الاحتلال الفرنسي، وكانت القوات الفرنسية قد استقدمت مع إحساسها بمدى قوة وجدية ثورة الشيخ صالح العلي، وبأنها أصبحت خطراً جدياً يهدد سيطرة فرنسا على الساحل السوري وبالتالي على كافة الأراضي السورية، عدداً كبيراً من الفرق العسكرية المدربة على حرب الجبال والغابات، من الهند الصينية وإفريقية، كما دعمت هذه القوات بالطائرات والمدفعية والأسلحة الرشاشة الحديثة